إشراقة: اللغة العربية في مواجهة تحديات العصر

فى الإحتفال بالعيد الماسى لمجمع اللغة العربية (1932-2007) حضر علماء أجلاء من مختلف بلاد العالم يشاركون فى هذه المناسبة برؤاهم ووجهات نظرهم حول قضية العلاقة بين اللغة العربية وبين العصر الذى نحيا فيه، وكان من بين هذه الأبحاث الجديرة بالتأمل، بحثا تحت عنوان " اللغة العربية في مواجهة تحديات العصر: العلاقة بالعولمة " وهو بقلم ف. كورينتي (العضو المراسل من إسبانيا).

تم طرح عديد من القضايا فى هذا البحث أهمها، تعريف العولمة بأنها لفظة مستحدثة في أيامنا هذه للدلالة على تحول الكرة الأرضية كلها بما تحتوي عليه من شعوب وقبائل، ومن عناصر وأجناس، إلى ما تسمى بالقرية الشاملة أو العالمية، وذلك نتيجة لتقارب مقومات العمران في المجتمع من اقتصاد وقانون علم وفنون و... إلخ، وهذا التقارب قد أصبح ملموسًا فعلاً في بعض الميادين دون غيرها في مناطق شاسعة من العالم. وقد نُسب ذلك إلى تقدم البشر السريع في القرنين الأخيرين، ومن المتفائلين من يراه تقدمًا صحيحًا متزايدًا متكاملاً حتميًّا، ومن المتشائمين من يشك في صحة اتجاهه وفي اطراده واتساعه في القضايا المادية والمعنوية على السواء، بل وفي حسن نية بعض المشيدين به.

وكان تركيز البحث ليس فى مناقشة مناقب العولمة الاقتصادية والاجتماعية ومثالبها وإنما الإعتناء بالجانب اللغوي هذا الجانب المكنون دائمًا في أية عولمة، يوضح البحث أنه لم تنتشر أكبر لغات العالم إلا عقب هيمنة الدول الناطقة بها، ولا شاهد أحدث ولا أدل على هذا الأمر مما فازت به الإنجليزية من نجاح وإقبال في النصف الثاني من القرن الماضي على حساب الفرنسية خصوصًا، وذلك نتيجة لنفوذ إنجلترا والولايات المتحدة السياسي والاقتصادي، وقد آل أمرها إلى غاية لا يكاد يجوز للمثقفين المعاصرين أن يجهلوا الإنجليزية، فضلاً عن أهل السياسة والاقتصاد، بما أنها تعتبر لغة العولمة بدون جدال.

وكان سؤال البحث الأساسى هو: ماذا عسى أن يكون مصير لغات العالم المواجهة لتحدي هذه العولمة؟ والأجوبة تختلف بالطبع وفقًا لعقول الناس وطباعهم وميولهم العقائدية، ومنهم المتكهنون بانتصار اللغة الواحدة في مستقبل البشر العاجل أو الآجل، ومنهم من يحسب ذلك الانتصار غير مؤدٍ إلى انقراض أهم لغات العالم التي ستبقى لا محالة متداولة في أوطانها في شبه الازدواجية القائمة الآن في مناطق واسعة من العالم، ومنهم أخيرًا من لا يصدق بأن شأن هذه العولمة غير شأن أمثالها فيما سلف من الزمان، أي أن اللغة السائدة اليوم ستقوم مقامها لغة أخرى بدورها غدًا.

كما يطرح البحث سؤلا آخر ـ يهم معشر العرب والمستعربين المحبين للعربية وآدابها وثقافة أبنائها ـ وهو: كيف ستؤثر العولمة الحاضرة السائرة تحت لواء الإنجليزية في مصير لغة العروبة العزيزة؟ هذه اللغة المعدودة إحدى اللغات الخمس التي وضعت عليها أسس حضارة البشر، إلى جانب اليونانية واللاتينية والصينية والسنسكريتية.

ويجيب البحث فى ثقة وتفائل بأنه لا يوجد أدنى شك في قابلية العربية وقدرتها على مواجهة هذا التحدي في حوزتها، وعلى البقاء فيها سائدة غير مسودة، مع توقع ازدياد إقبال على تعلم الإنجليزية كلغة الاتصال بالخارج والنشاط الدولي، خصوصًا في الأقطار العربية التي كانت تلعب فيها هذا الدور لغة أخرى إلى الآن، شأن الفرنسية في شمالي أفريقيا. ومن أقوى الأدلة على رسوخ قدم العربية في أسواق بضائع العولمة سرعة تطبيق أحدث المخترعات الكهربية من أدوات وبرامج على خصائص الخط العربي.

ويضيف الباحث أنه لا تتعرض العربية من جهة أخرى لنقصان الإقبال على مطبوعاتها عن مستوياتها الحاضرة، مع كونها دون ما تستحق هي من العلو، على غرار ما قد اعترى الفرنسية والألمانية، مثلاً، في السنين الأخيرة عقب تحول عدد كبير من قرائهما من سوى أهاليهما إلى تفضيل المطبوعات الإنجليزية، وذلك أن معظم قراء العربية غير أجانب. يترتب على هذه الميزة أن رواج الكتاب العربي ونجاحه في الأسواق الداخلية الطبيعية غير مهدد بالعولمة على خلاف اللغتين المذكورتين وغيرهما من أخواتهما الأوربيات كالإيطالية والروسية ... إلخ، وإن كان انخفاض عدد القراء المطلق في العالم كله بالنسبة إلى تضخم الوسائل الإعلامية الصوتية والبصرية في الأجيال الحديثة من أعوص مشاكل الثقافة العربية هي الأخرى.

إن لبعض الظروف أثرًا إيجابيًّا في تقدير وانتشار اللغة، ككثرة الناطقين وطول مدة دورها المهم في الحضارة العالمية، وانتشارها في الخارج، ودرجة استعدادها لمطاوعة متطلبات المستقبل، على عكس الظروف السلبية من قبيل تراجع اللغة الفصيحة أمام اللهجات الإقليمية، وحسبنا ذلك إشارة إلى أن العربية تتوفر على أكثر المقتضيات لتصدر مرتبتها، لأن أبناءها يعدون بمئات الملايين، منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا ينقص العربية أيضًا بلاء حسن في ميدان الحضارة العالمية طيلة قرون، ولعل أهم الخلل في مؤهلاتها للفوز بقصب السبق في هذه الحلبة، منحصر في بعض التهاون الملاحظ أحيانًا في تخطيط مستقبلها، وفي الحرص على الوفاء للفصحى في كل مظهر من مظاهر الحياة، وذلك ناجم عن تكاثر الأقطار العربية مع الاختلاف في مناهجها التربوية وسياستها اللغوية.

يؤكد الباحث أن العربية تحتل منصبًا مرموقًا في مرتبة اللغات المستعدة لمواجهة تحدي العولمة، وإن هذا المنصب قابل للتحسن على شرط اتخاذ التدابير اللازمة المستعجلة في النقط الضعيفة بناء على خطط حسنة التصميم كافية التمويل. إن الحكومات العربية بواسطة أنظمتها المنوط بها هذا الأمر تعمل منذ زمن على تحقيق هذه الأهداف، مؤمنة بقداستها غير محتاجة إلى تنبيه أو استحثاث، وإنما المراد أن نشير إلى ما قد يمكن إصلاحه سريعًا بهذا الصدد، من فتور التعاون في هذا الميدان بين البلاد العربية والدول الغربية، لاسيما منها المجموعة الأوربية المجاورة لها، القربى من فهمها، المجسم مثلاً في عدم الاتفاق على تخطيط مشترك، على الأقل في خطوطه العريضة، لسياساتها اللغوية تجاه العولمة، مع أن المجال واسع لهذا النوع من التعاون وفوائده كثيرة للجميع.

بينما على الطرف الاخر نجد هذا التعاون قائم على قدمٍ وساقٍ في المجموعة الأوربية بواسطة برامج إيرسموس وسقراط لتبادل الطلب والأساتذة الجامعيين وتدريبهم على استعمال لغات أوربا المختلفة، وتفادي أحادية اللغة وهيمنة الإنجليزية كلغة سائدة على حساب اللغات الرئيسية الأخرى،وهذه سياسة حديثة العهد نسبيًّا، وقد أصبح مفهومًا أن المثقف الأوربي سيكون ثلاثي اللغات على الأقل، مجيدًا للغة وطنه، وللغتين أخريين إحداهما الإنجليزية، وإن في هذا الحل توازنًا واقعيًّا مقسطًا بين حقوق الوطن والمجموعة والعالم. لا بد للعربية أن تأخذ طريقها للتواجد العالمى بصحوة أهلها وتقدمهم العلمى والحضارى.