إشراقة: مصر المنارة

مهما كانت العقبات التى تحيط بمصر من الخارج أو الداخل فهى قادرة على التصدى لها والإنتصار عليها، لأن مصر دائما منارة حضارية، أتذكر هنا فى هذه اللحظات التاريخية التى نعيشها قول مفكرنا زكى نجيب محمود (1905- 1993) فى كتابه "هذا العصر وثقافته" "المصرى فى حياته العملية مطرد منتظم مهذب، ينساب إنسياب النيل فى مجراه...المصرى بان للحضارات صانع للثقافات، ولولا نغمة حياته المطمئنة الهادئة ما صنع ولا بنى، ولكنه إذا فاجأته فاجئة استدار لها وأزالها لكى يعود إلى هدوئه فيبنى ويصنع...وبقى المصريون كما كانوا من أول الدهر مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزا ناطقا فى مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، ارتفعت كلها لتشير إلى السماء وكأنها أصابع السبابة من الأيدى، انبسطت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين."

أتذكر أيضا كتاب " فجر الضمير The Dawn of Conscience" الذى وضعه جيمس هنرى بريستد عام 1934 وترجمة د.سليم حسن، والمؤلف يدلل على أن مصر هى أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل فى مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنسانى بمصر وترعرع، وبه تكونت الأخلاق، وقد أخذ " بريستد " يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، هذا الكتاب يؤكد مجموعة من الرسائل القيمة العريقة:

الرسالة الأولى: مصر حسب الوثائق التاريخية عن العالم القديم هى مهد حضارة العالم، وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوربيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون " برستد " قد هدم بكتابه النظريات الراسخة فى أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوربية أخذت عن العبرانيين فقط، وهذا الرأى مازال يعتنقه بعض من لم يقرأ كتاب " بريستد "، أو من قرأه ويحاول ويعمل على تجاهله عامدا ولكن هذا الكتاب أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلى لكل حضارات الإنسانية، والذى شع على جميع العالم هى مصرنا العزيزة.

الرسالة الثانية: أن برستد قضى على الخرافات التى كانت شائعة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرما، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم بلاد اليونان كانت مهد الحضارة العالمية، وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصرهى التى أخذ عنها العالم حضارته.

الرسالة الثالثة: إن برستد قسم التاريخ الإنسانى لعصرين بارزين: الأول عصر كفاح الإنسان مع المادة والقوى الطبيعية والتغلب عليها، والعصر الثانى هو عصر الكفاح بينه وبين نفسه الباطنة، وذلك حينما أخذ ضميره يبزغ وأخلاقه تتكون، والعصر الأول يقدره " برستد " بنحو مليون سنه، أما عصر بزوغ الضمير فقد بدأ بدوره حينما عرف الإنسان يدون أفكاره بالكتابة، ويقدر عمره بنحو 5000 سنة تقريبا، كما يستشعر " برستد " أن الإنسان عليه أن يتخلى عن المشاحنات والمنازعات والحروب التى تدمر كل شىء، وعلى الإنسان أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة والمثل العليا ويقلع عن المادية فى التعاملات والسلوكيات لكى يصل الإنسان إلى فجر الضمير الذى يصنع الحضارة الحديثة كما صنعها قديما فى مصر.

وجاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى للكاتدرائية فى عيد المصريين إنما هو تعبيرا نبيلا ينبع من قيم المصريين عبر التاريخ متوجا بقيم السماحة والعدل والخلق الرفيع، مهما كانت العقبات، الحضارات تبقى، نعم تبقى بالروح الإنسانية المضيئة التى تشرق وتسرى فى منظومة علمية من الجد والعمل لصنع المستقبل، ومصر برجالها ومواقفهم الحضارية أهلا لذلك، لأن مصر فجر الضمير الإنسانى.