الإلتزام المتقن للعمل أحد العناصر الجوهرية لتحقيق الجودة ومن ثم للتقدم، ووجدتنى أتذكر قصة قصيرة للأديب ورجل المسرح أنطون تشيكوف ( 1860-1904 ) الذى بهر العالم بقدرته على تصوير العواطف لدى شخصياته الإنسانية، وتحليله الدقيق للمواقف واللحظات الحياتية فى بنية المجتمع. وتحكى القصة عن رجل فى مدينة، يملك متجر لبيع الساعات، هذا الرجل يحترم عمله، فهو يفتح ويغلق متجره فى وقت محدد بشكل منتظم صباحا ومساء، لاحظ صاحب المتجر أن هناك شخص يمر كل صباح، ويتوقف قليلا محدقا على نافذة المتجر ثم يذهب دون شراء. تعجب صاحب المتجر من سلوك ذلك الرجل، وقرر أن يكتشف هذا اللغز. وفى صباح اليوم التالى بينما يقف الرجل كعادته، خرج له صاحب المتجر مسرعا، وسأله دون تردد؟ إننى أراك كل يوم، فى نفس هذا الموعد، تأتى وتحدق فى الساعات هل تريد شراء ساعة؟ رد الرجل بأدب جم: لا يا سيدى، إننى أضبط ساعتى على ساعتك. فسأله صاحب المتجر: أين تعمل؟ الرجل: أعمل فى المصنع المجاور لك، إننى الموظف المسئول عن إطلاق صفارة الساعة الثالثة مساء، لتغيير وردية العمل. رد صاحب المتجر: مندهشا، هذا شىء عجيب!!! فقال الرجل: وما العجيب فى هذا يا سيدى؟ قال صاحب المتجر: لأننى أنا الذى أضبط ساعاتى على صفارة مصنعك كل يوم.
إنتهت القصة، ولكن المعنى الكبير، والرمز العميق لهذه اللقطة الحياتية العادية البسيطة لم ينته بعد، حيث الدلالة الجوهرية لهذه الكريستالة الفنية تكمن فى تكاملية البناء داخل المجتمع، إن كل فرد له دور يجب عليه أن يؤديه على خير وجه، حتى تنضبط منظومة العمل، كل فرد داخل المجتمع عليه مسئولية مهام عملة فى الموقع الذى يشغله، يجب أن يؤدي هذه المهام بكل إتقان ودقة، وكأنه فى حالة حرب، يقظ ونشط ومخلص فى آداء العمل، لأن كل منا عامل بناء فى تطور المجتمع. من هنا نجد الجدية والنشاط والإنضباط وقيمة العمل فى محل الساعات، وأيضا فى صفارة المصنع داخل المدينة الصغيرة، كل فرد يفهم دوره حق الفهم. هذه المدينة التى ترمز إلى كل مفردات المجتمع الآخرى فى الجوانب الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية، كلها متكاملة مع بعضها البعض، وكأننا فى أوركسترا سيمفونى يعزف ألحانا متعددة، ولكنها منسجمة ومتناغمة فى محصلتها النهائية، لكى تصنع سحر الموسيقى، تصنع ثقافة الجودة. المجتمع لا يمكنه أن يتجه للأمام دون نظرة شمولية لكل روافدة، فالطائر لا يمكنه أن يحلق بجناح واحد وأيضا الإنسان لا يعمل بفرده. إن هذه التكاملية هى التى تدفع بديناميكية الحركة نحو التقدم نتيجة التفاعل الخلاق لقيمة العمل المبدع بين أبناء المجتمع. علينا أن ندرك بعد ثورتين كبيرتين 25 يناير و 30 يونيو، بأنه ما من شىء يحقق الحلم إلا العمل.. العمل وحده يخلق الإنسان ويجعل لوجوده معنى على هذه الأرض، هذا المعنى الكامن فى القصة هو التأكيد على وجوب العمل بانضباط، ووعى وإحساس القيمة، وهذا سوف يختصر المسافة بين الواقع والحلم. وهذا ما صنعته اليابان، والصين والهند وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول، العمل الجاد المتقن الذى يجعل للإنسان قيمة ويشعر من خلاله أنه ينتج، ويبنى ويشيد وبالتالى يرتقى ينفسه ويرتقى بمجتمعه، بل يمتد إلى المحيط الإنسانى، ما أحوجنا إلى ثقافة العمل الجاد لهذه المرحلة الجديدة، لأنها هى التى تصون خصوصية وهوية المجتمع لتحديات المستقبل، لكى نتواصل مع العالم، فمصر هى فجر الضمير الإنسانى.